فصل: ذكر جمل حوادث الإسكندريّة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 ذكر جمل حوادث الإسكندريّة

وفي سنة تسع وتسعين ومائة عظمت الحروب بديار مصر بين المطلب بن عبد اللّه الخزاعيّ أمير مصر وبين عبد العزيز بن الوزير الجرويّ الثائر بتنيس فعقد المطلب على الإسكندرية لمحمد بن هبيرة بن هاشم بن خديج فاستخلف محمد خاله عمر بن عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج الذي يقال له‏:‏ عمر بن ملاك ثم عزله المطلب بعد ثلاثة أشهر بأخيه الفضل بن عبد الله بن مالك وكانت بالإسكندرية مراكب الأندلسيين قد قفلوا من غزوهم وكان سبب قدوم هذه المراكب ما جرى لأهل قرطبة بوقعة الربض مع الحكم بن هشام في سنة اثنتين وثمانين ومائة فأخرج جماعة منهم فوصلوا إلى صغر الإسكندرية زيادة على عشرة آلاف وكان سبب ثورتهم أنَّ قصابًا من الإسكندرية رمى وجه رجل منهم بكرش فأنفوا من ذلك وصاروا إلى ما صاروا إليه وذلك لما نزلوا رمل الإسكندرية ليبتاعوا ما يصلحهم وكذلك كانوا على الزمان وكانت الأمراء لا تبيحهم دخول الإسكندرية إنما كان الناس يخرجون إليهم فيبايعونهم فلما عزل عمر بن ملاك كتب إليه عبد العزيز الجروي يأمره بالوثوب على الإسكندرية والدعاء له بها فبعث عمر بن ملاك إلى الأندلسيين فدعاهم إلى القيام معه في إخراج الفضل عنها فساروا معه وأخرج الفضل ودعا للجروي فوثب أهل الإسكندرية على الأندلسيين وأخرجوهم وردّوا الفضل وقتل من الأندلسيين نفر وانهزم الباقون إلى مراكبهم فعزل المطلب أخاه وولى عليها إسحاق بن أبرهة بن الصباح في شهر رمضان سنة تسع وتسعين ثم عزله بأبي ذكر بن جنادة المعافري‏.‏

فلما اقتتل السري بن الحكم هو والمطلب بن عبد الله وغلب السري على مصر وثب عمر بن ملاك على أبي بكر وأخرجه من الإسكندرية ودعا للجرويّ وأقبل الأندلسيون إليه فأفسدوا فأمرهم بالخروج إلى مراكبهم فشق ذلك عليهم وظهرت بالإسكندرية طائفة يسمون بالصوفية يأمرون بالمعروف ويعارضون السلطان في أموره فترأس عليهم رجل منهم يقال له‏:‏ أبو عبد الرحمن الصوفيّ فصاروا مع الأندلسيين يدًا واحدة واعتضدوا بلخم وكانت لخم أعز مَن في ناحية الإسكندرية فخوصم أبو عبد الرحمن الصوفيّ إلى عمر بن ملاك في امرأة فقضى على أبي عبد الرحمن فوجد في نفسه من ذلك وخرج إلى الأندلسيين فألَّف بينهم وبين لخم ورجا أهل الأندلس أن يدركوا ثأرًا من عمر بن ملاك فساروا إلى عمر بن ملاك وهم زهاء عشرة آلاف فحصروه في قصره وخشي أنَّ القصر لا يمنعه منهم وخاف أن يدخلوا عليه عنوة فيفضح في حرمه فاغتسل وتحنط وتكفن وأمر أهله أن يدلوه إليهم فدلي فأخذته السيوف ثم ولي أخوه محمد بن عبد الله الذي يلقب‏:‏ جيوس فقتل ثم ولي عليهم عبد الله البطال بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج فقتل ثم ولي عليهم أخوه أبو هبيرة الحارث فقتل ثم ولي عليهم خديج بن عبد الواحد فقتل وانصرف القوم وذلك في في القعدة ثم فسد ما بين لخم والأندلسيين عند مقتل ابن ملاك واقتتلوا فانهزمت لخم‏.‏

فظفر الأندلسيون بالإسكندرية في ذي الحجة فولوها أبا عبد الرحمن الصوفيّ فبلغ من الفساد والنهب والقتل ما لم يسمع بمثله فعزله الأندلسيون وولوا رجلًا منهم يعرف بالكنانيّ ثم حاربت بنو مدلج الأندلسيين فظفر بهم الأندلسيون ونفروهم عن البلاد فلم يقدر بنو مدلج على الرجوع إلى أرض الإسكندرية حتى طلب السريّ من الأندلسيين أن يردّوهم فأذنوا لهم حينئذٍ ورجعوا وكان أبو قبيل يقول‏:‏ أنا على الإسكندرية من أربعين مركبًا مسلمين وليسوا بمسلمين تأتي في آخر الصيف أخوف مني عليها من الروم فيقال له‏:‏ ما هذه الأربعون مركبًا في هذا الخلق لو كانت نيرانًا تضطرم فيقول‏:‏ اسكت ويلك منها وممن فيها يكون خراب الإسكندرية وما حولها وبلغ عبد العزيز الجرويّ قتل ابن ملاك فسار في خمسين ألفًا حتى نزل على حصن الإسكندرية وحصرها حتى أجهد من فيها فبلغه‏:‏ أن السري بن الحكم بعث إلى تنيس بعثًا فكرَّ راجعًا في المحرّم سنة إحدى ومائتين فدعا الأندلسيون للسري ثم لما خلع أهل مصر المأمون ودعوا لإبراهيم بن المهديّ وقام الجرويّ بذلك سار إلى الإسكندرية وحصر الأندلسيين حتى دخلها صلحًا ودُعي له بها ثم سار عنها إلى الفسطاط فحارب السري وقتل ابنه ثم انصرف فسار الأندلسيون بعامل الجرويّ وأخرجوه من الإسكندرية وخلعوا الجرويّ ودعوا للسريّ فسار إليهم الجرويّ في شهر رمضان سنة ثلاث ومائتين فعارضته القبط بسخا وأمدّتهم بنو مدلج وهم في نحو من مائتي ألف فهزمهم وبعث بجيوشه إلى الإسكندرية فحاصروها وكانت بين السريّ وبين أهل الصعيد حروب ثم إنّ الجرويّ سار إلى الإسكندرية سيره الرابع وحاصرها ونصب عليها المجانيق سبعة أشهر من أوّل شعبان سنة أربع ومائتين إلى سلخ صفر سنة خمس فأصاب الجرويّ فلقة من حجر منجنيقة فمات سلخ صفر سنة خمس ومائتين وقام من بعده ابنه عليّ‏.‏

فلم تزل الفتن بالأندلسيين في الإسكندرية متصلة إلى أن قدم عبد الله بن طاهر إلى مصر من قبل أمير المؤمنين المأمون وأخرج عبيد الله بن السريّ من مصر وسار إلى الإسكندرية في قوّاد العجم من أهل خراسان مستهلّ صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين فحاصرها بضع عشرة ليلة حتى خرج إليه أهلها بأمان وصالحه الأندلسيون على أن يسيرهم من الإسكندرية حيث أحبوا على أن لا يخرجوا في مراكبهم أحدًا من أهل مصر ولا عبدًا ولا آبقًا فإن فعلوا فقد حلت له دماؤهم ونكث عهدهم وتوجهوا فبعث ابن طاهر من يفتش عليهم مراكبهم فوجدوا فيها جمعًا من الذين اشترط عليهم أن لا يخرجوهم فأمر بإحراق مراكبهم فسألوه أن يردّهم إلى شرطهم ففعل وساروا إلى جزيرة أقريطش وملكوها وكان الأمير معهم أبو حفص عمر بن عيسى ثم ملكها ولده من بعده وعمرها الأندلسيون إلى أن غزاها الروم سنة خمس وأربعين وثلثمائة وملكها بعد حصار طويل وولى على الإسكندرية إلياس بن أسد بن سامان ورجع إلى الفسطاط في جمادى الآخرة ثم سار إلى العراق ولما انتقض أسفل الأرض في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين وحاربهم الأفشين ومعه عيسى بن منصور الرافقيّ أمير مصر وبعث عبد الله بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ إلى الغربية فانهزم إلى الإسكندرية واستجاشت عليه بنو مدلج وحصروه في شوّال فسار الإفشين وأوقع بمن في طريقه حتى قدم الإسكندرية في جنوده فلقيته طائفة من بني مدلج فهزمهم مرّتين وأسر منهم وقتل ودخل الإسكندرية لعشر بقين من ذي الحجة ففرّ منه رؤساؤها‏.‏

وكان عليها معاوية بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج فأصلح أمرها ثم خرج إلى أهل البشرود فامتنعوا عليه حتى قدم المأمون إلى مصر فصار إلى البشرود والإفشين قد أوقع بالقبط بها كما تقدّم ذكره‏.‏

ولما ولي إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب إفريقية في سنة إحدى وستين ومائتين حسنت سيرته فكانت القوافل والتجار تسير في الطرق وهي آمنة وبنى الحصون والمحارس على ساحل البحر حتى كانت توقد النار من مدينة سبتة إلى الإسكندرية فيصل الخبر منها إلى الإسكندرية في ليلة واحدة وبينهما مسيرة أشهر‏.‏

وفي سنة اثنتين وثلثمائة دخل حباسة في جيوش إفريقية إلى الإسكندرية في المحرّم ومعه مائة ألف أو زيادة عليها وقدمت الجيوش من المشرق مددًا لتكين أمير مصر وسار حباسة من الإسكندرية ونودي بالنضير في الفسطاط لعشر بقين من جمادى الآخرة فلم يتخلّف عن الخروج إلى الجيزة أحد من الخاصة والعامّة إلا من عجز عن الحركة لمرض أو عذر وأتاهم حباسة فلقوه وهزموه ثم دار عليهم فقتل من أهل مصر نحوًا من عشرة آلاف ونهض حباسة إلى إفريقية وأقاموا بمصر مضطربين‏.‏

فأقبل مؤنس الخادم من العراق في رمضان بجيوش كثيرة فصرف تكين في ذي القعدة وولى ذكاء الأعور في صفر سنة ثلاث وثلثمائة فخرج في جيوشه إلى الإسكندرية وتتبع كل من يومًا إليه بمكاتبة صاحب إفريقية فسجن منهم وقتل كثيرًا وجلا أهل لوبية ومراقية إلى الإسكندرية في شوّال سنة أربع وثلثمائة خوفًا من صاحب برقة‏.‏

وفي سنة سبع وثلثمائة سارت مقدّمة المهديّ عبيد الله من إفريقية مع ابنه أبي القاسم إلى لوبية فهرب أهل الإسكندرية وجلوا عنها وخرج منها مظفر بن ذكاء الأعور في جيشه ودخلت إليها العساكر يوم الجمعة لثمان خلون من صفر وفرّ أهل القوّة من الفسطاط إلى الشام فخرج ذكاء أمير مصر إلى الجيزة وعسكر بها ثم مرض ومات على مصافه بالجيزة في ربيع الأول‏.‏

فولي تكين بعده ولايته الثانية من قبل المقتدر ونزل الجيزة وأقبلت مراكب صاحب إفريقية إلى الإسكندرية عليها سليمان الخادم فقدم ثمل الخادم صاحب مراكب طرسوس فالتقيا برشيد في شوّال فاقتتلا فبعث الله ريحًا على مراكب سليمان ألقتها إلى البر فتكسر أكثرها وأخذ من فيها أخذًا باليد وقتل أكثرهم وأسر من بقي وسيقوا إلى الفسطاط فقتل منهم نحو سبعمائة رجل وسار أبو القاسم بن المهدي من الإسكندرية إلى الفيوم وملك جزيرة الأشمونين والفيوم وأزال عنها جند مصر فمض ثمل الخادم في مراكبه إلى الإسكندرية فقاتل من بها من أهل إفريقية فظفر بهم ونقل أهل الإسكندرية إلى رشيد وعاد إلى الفسطاط ومضى في مراكبه إلى اللاهون ولحقته العساكر فدخلوا إلى الفيوم في صفر سنة سبع وثلثمائة فخرج أبو القاسم بن المهدي إلى برقة ولم يكن بينهما قتال ورجعت العساكر إلى الفسطاط وما زالت الإسكندرية وأعمالها في اضطراب إلى أن قدمت جيوش المعز لدين الله مع القائد جوهر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة فملكتها وما برحت إلى أن قام بها نزار بن المستنصر وكان من أمره ما قد ذكر عند ذكر خزائن القصر‏.‏

وفي سنة اثنتي عشرة وستمائة اجتمع بالإسكندرية ثلاثة آلاف من تجار الفرنج وقدمت بطسة إلى المينا فيها من ملوك الفرنج ملكان فهموا أن يثوروا ويقتلوا أهل البلد ويملكوها فتوجه الملك العادل أبو بكر بن أيوب إليها وقبض على التجار المذكورين وعلى من بالبطسة وأستصفى أموالهم وسجنهم وسجن الملكين وجرت خطوب حتى أطلق السلطان نساءهم وعاد إلى القاهرة‏.‏

وفي سنة أربع وخمسين وخمسمائة بنى الملك الصالح طلائع بن رزيك على بلبيس حصنا من لبن‏.‏

وفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة كانت وقعة البابين بين الوزير شاور وأسد الدين شيركوه فانهزم عسكر شيركوه ومضى منهم طائفة إلى الإسكندرية ثم كانت لشيركوه على شاور فانهزم منه إلى القاهرة ومضى شيركوه إلى الإسكندرية فخرج إليه أهل الثغر وفيهم‏:‏ نجم الدين محمد بن مصال والي الثغر وقاضيه الأشرف بن الخباب وناظره القاضي الرشيد بن الزبير وسُرّوا بقدومه وسلَّموه المدينة ثم سار منها يريد بلاد الصعيد‏.‏

واستخلف ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على الثغر في ألف فارس فنزل عليه شاور ومعه‏:‏ مري ملك الفرنج فقام معه أهل الثغر واستعدّوا لقتال شاور فكان ما أخرجوه أربعة وعشرين ألف فرس فوعدهم شاور أن يضع عنهم المكوس والواجبات ويعطيهم الخمس إذا سلموه صلاح الدين فأبوا ذلك وألحوا في قتاله فحصرهم حتى قلّ الطعام عندهم فتوجه إليهم شيركوه وقد حشد من العربان جموعًا كثيرة فبعث إليه شاور وبذل له خمسة آلاف دينار على أن يرجع إلى الشام فأجابه إلى ذلك وفتحت المدينة وخرج صلاح الدين إلى مري ملك الفرنج وجلس معه فما زال به شاور أن يسلمه صلاح الدين فلم يوافقه بل سيره إلى عمه شيركوه من البحر على عكا بمن معه إلى دمشق ودخل شاور إلى الإسكندرية في سابع عشر شوّال فاستتر ابن مصال وفرّ إلى الشام وقبض على ابن الخباب وعوقب حتى فداه أهله بمال جزيل ولم يقدر على ابن الزبير وخرج إلى رشيد‏.‏

هذا وقد امتنع الفقيه أبو الطاهر بن عوف وجماعة كثيرة بالمنار فوقف عليهم شاور فقال له ابن عوف‏:‏ اعذرنا يا أمير الجيوش وسامحنا بما فعلناه فعفا عنهم وولي القاضي الأشرف أبا القاسم عبد الرحمن بن منصور بن نجا ناظرًا على الأموال وخرج ومعه مري ملك الفرنج إلى القاهرة ثم توجه مري إلى بلاده‏.‏

وفي سنة إحدى وسبعين وستمائة ورد الخبر بحركة الفرنج إلى ثغور مصر فاهتم الملك وفي يوم الخميس شهر رجب سنة سبع وعشرين خرج بعض تجار الفرنج إلى ظاهر باب البحر حيث تجتمع العامّة للفرجة وتعرّض إلى صبيّ أمرد يراوده عن نفسه فأنكر ذلك بعض من هناك من المسلمين وقال‏:‏ هذا ما يحل فأخذ الفرنجي خفًا كان بيده وضربه على وجهه فصاح بالناس فأتوه فقام الفرنج مع صاحبهم واتسع الخرق إلى أن ركب متولي الثغر وأغلق أبواب المدينة وطلب من أثار الفتنة ففرّوا وعاد إلى داره وترك الأبواب مغلقة وكان بظاهر المدينة خلق كثيرة قد توجهوا على عادتهم في حوائجهم فحيل بينهم وبين بيوتهم وجاء الليل وهم قيام على الأبواب يضجون ويصيحون فمضى أعيان البلد إلى المتولي وما زالوا به حتى فتح لهم فدخلوا مبادرين وهم يزدحمون فمات منهم زيادة على عشرة أنفس وتلفت أعضاء جماعة وذهب من عمائم الناس ومناديلهم وغير ذلك شيء كثيرة وعظم البكاء والصراخ طول الليل فلما كان من الغد ركب الوالي لكشف أحوال الناس فتكاثروا عليه ورجموه فانهزم منهم إلى داره فتبعوه وقاتلوه فقاتلهم من أعلى الدار حتى سفكت بينهما دماء كثيرة وأحرقوا بابه ونهبوا دورًا بجانبه‏.‏

فكتب يستنجد والي دمنهور ومن حوله من العربان فأتوه واحتاطوا بالمدينة وسرّح الطائر إلى السلطان بخروج أهل الإسكندرية عن الطاعة فاشتدّ غضبه وخشي من إطلاقهم الأمراء المسجونين وبعث إلى القضاة فجمعهم واستفتاهم في قتالهم فكتبوا بما يجب وخرج إليهم الوزير مغلطاي الجماليّ وطوغان شادّ الدواوين وأيدمر أمير جندار وعدّة من المماليك السلطانية وناظر الخاص ومع الوزير تذكرة بإراقة دماء أهل الفساد ومصادرة جماعة وأخذ أموال أهل البلد والقبض على الأسلحة المعدة بها للغزاة وإمساك القاضي والشهود وحمل الأمراء المسجونين إلى القاهرة فساروا في عاشره وقدموا الثغر بعد ثلاثة أيام ونزل الوزير بالخيس وفرض على الناس خمسمائة ألف دينار مصرية وأحضر قاضي القضاة عماد الدين ونائبه في الحديد وأنكر عليهما كونهما شهرا النداء في البلد بالغزاة في سبيل الله فأنكرا وقوع هذا منهما وأنهما لم يكن في قدرتهما ردّ السواد الأعظم فضرب نائبه ابن الشيبي ضربًا مبرّحًا وألزمه بحمل ستمائة ألف درهم وألزم القاضي بخمسمائة ألف درهم وكان قد رسم بشنقه فتلطف في مكاتبة السلطان واعتذر عنه وبرّأه حتى عفا عنه وتتبع العامّة فوسط منهم ثلاثين رجلًا في يوم الجمعة ثالث عشره فتسارع الناس إلى دورهم من الخوف فذهبت عدة عمائم واشتدّ الخوف مدّة عشرين يومًا وكتب السلطان تتوالى بالإيقاع بأهل الثغر وأخذ أموالهم والوزير يحسن في الجواب إلى أن جهز الأمراء المسجونين وسار من الثغر وقد استعرض ما به من السلاح فوجد ستة آلاف عدّة كاملة جعلها جميعها في قاعة وختم عليها وبلغت الجباية من الناس ما ينيف على مائتين وستين ألف دينار فكانت هذه من المحن العظيمة والحوادث الشنيعة ولله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

ذكر مدينة أتريب هذه المدينة بناها أتريب بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام‏.‏

قال ابن وصيف شاه‏:‏ وكان أتريب قد انتقل إلى حيزه بعد موت أبيه قبطيم وهي المدينة التي كان أبوه بناها له وكان طولها اثني عشر ميلًا ولها اثنا عشر بابًا وجعل في شارعها الأعظم ثلاث قباب عالية على أعمدة بعضها فوق بعض منها قبة في وسط المدينة وقبتان في طرفيها وجعل على كل قبة مرقبًا كبيرًا وفي كل ناحية منها ملعبًا ومجالس ومنتزهات تشرق وشق في غربيها نهرًا وعقد عليه قناطر وجعل من فوقها مجالس متصلة وحولها المنازل تدور بالخليج متصلة بالقناطر على رياض مزروعة من خلفها الجنان والبساتين وعلى كل باب من الأبواب أعجوبة من تماثيل وأصنام متحرّكة وأصنام تمنع من يؤذي وجعل في داخل كل باب صورة شيطانين من صفر فإذا قصدها أحد من أهل الخير قهقه الشيطان الذي عن يمنة الباب وإن كان من أهل الشرّ بكى الشيطان الذي عن يسرة الباب وجعل في كل منتزه منها من الوحش الآلف والطيور المغرّدة كل مستحسن وفوق قباب المدينة صورًا تصفر إذا هبت الرياح ونصب مرآة ترى البلاد البعيدة وبنى حذاءها في الشرق مدينة وجعل فيها ملاعب وأصنامًا بارزة في صور مختلفة وفي وسطها بركة إذا مر بها الطير سقط عليها فلا يبرح حتى يؤخذ وجعل لها حصنًا باثني عشر بابًا على كل باب تمثال يعمل بأعجوبة وعمل حواليها جنانًا وجعل بالقرب منها في ناحية الشرق مجلسًا منقوشًا على ثماني أساطين وفوقه قبة عليها طائر منشور الجناحين يصفر في كل يوم ثلاث تصفيرات بكرة ونصف النهار وعند غروب الشمس وأقام فيها أصنامًا وعجائب كثيرة وبنى مدنًا كثيرة وأقام فيها رجلًا يقال له‏:‏ برسان يعمل الكيمياء وضرب منها دنانير في كل دينار سبعة مثاقيل عليها صورته وعاش أتريب ملكًا ثلثمائة وستين سنة وبلغ من العمر خمسمائة سنة وعمل له ناوس في جبل بالشرق حفر له تحته سرب بطن بالزجاج والمرمر وجعل على سرير من ذهب مرصع وحملت إليه ذخائره وجعلوا على بابه صورة تنين لا يدنو منه أحد إلا أهلكه وسوّروا عليه الرمال وزبروا عليه اسمه وتاريخ وقته‏.‏

وقال ابن الكنديّ‏:‏ أربع كور بمصر ليس على وجه الأرض أفضل منها ولا تحت السماء لهنّ نظير‏:‏ كورة الفيوم وكورة أتريب وكورة سمنود وكورة أنصنا وكورة أتريب من جملة كور أسفل الأرض وهي مائة وثماني قرى‏.‏

وكان يقال‏:‏ مدائن السحرة من ديار مصر سبع وهي‏:‏ أرمنت وبيا وبوصير وأنصنا وصان وأتريب وصا‏.‏

ذكر مدينة تنيس تِنيس‏:‏ بكسر التاء المنقوطة باثنتين من فوقها وكسر النون المشدّدة وياء آخر الحروف وسين مهملة‏:‏ بلدة من بلاد مصر في وسط الماء وهي من كورة الخليج سميت بتنيس بن حام بن نوح ويقال‏:‏ بناها قليمون من ولد أتريب بن قبطيم أحد ملوك القبط في القديم‏.‏قال ابن وصيف شاه‏:‏ وملكت بعد أتريب ابنته فدبرت الملك وساسته بأيدٍ وقوّة خمسًا وثلاثين سنة وماتت فقام بالملك من بعدها ابن أختها قليمون الملك فردّ الوزراء إلى مراتبهم وأقام الكهان على مواضعهم ولم يخرج الأمر عن رأيهم وجدّ في العمارات وطلب الحكم‏.‏

وفي أيامه بُنيت تنيس الأولى التي غرّقها البحر وكان بينه وبينها شيء كثير وحولها الزرع والشجر والكروم وقرى ومعاصر للخمر وعمارة لم يكن أحسن منها فأمر الملك أن يبنى له في وسطها مجالس وينصب له عليها قباب وتزين بأحسن الزينة والنقوش وأمر بفرشها وإصلاحها وكان إذا بدا النيل يجري انتقل الملك إليها فأقام بها إلى النوروز ورجع وكان للملك بها أمناء يقسمون المياه ويعطون كل قرية قسطها وكان على تلك القرى حصن يدور بقناطر وكان كل ملك يأتي يأمر بعمارتها والزيادة فيها ويجعلها له منتزهًا‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ الجنتين اللتين ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز إذ يقول‏:‏ ‏"‏ واضرب لهم مثلًا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وخففناهما بنخل ‏"‏ الكهف 32 الآيات كانتا لأخوين من بيت الملك أقطعهما ذلك الموضع فأحسنا عمارته وهندسته وبنيانه وكان الملك يتنزه فيهما ويؤتي منهما بغرائب الفواكه والبقول ويعمل له من الأطعمة والأشربة ما يستطيبه فعجب بذلك المكان أحد الأخوين وكان كثير الضيافة والصدقة ففرّق ماله في وجوه البرّ وكان الآخر ممسكًا يسخر من أخيه إذا فرّق ماله وكلما باع من قسمه شيئًا اشتراه منه حتى بقي لا يملك شيئًا وصارت تلك الجنة لأخيه واحتاج إلى سؤاله فانتهره وطرده وعيره بالتبذير وقال‏:‏ قد كنت أنصحك بصيانة مالك فلم تفعل ونفعني إمساكي فصرت أكثر منك مالًا وولدًا وولى عنه مسرورًا بماله وجنته فأمر الله تعالى البحر فركب تلك القرى وغرّقها جميعها فأقبل صاحبها يولول ويدعو بالثبور ويقول‏:‏ يا ليتني لم أشرك بي أحدًا قال الله جلّ جلاله‏:‏ ‏"‏ ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ‏"‏ الكهف 43‏.‏

وفي زمان قليمون الملك بنيت دمياط وملك قليمون تسعين سنة وعمل لنفسه ناوسًا في الجبل الشرقيّ وحوّل إليه الأموال والجواهر وسائر الذخائر وجعل من داخله تماثيل تدور بلواليب في أيديها سيوف من دخل قطعته وجعل عن يمينه ويساره أسدين من نحاس مذهب بلوالب من أتاه حطماه وزبر عليه‏:‏ هذا قبر قليمون بن أتريب بن قبطيم بن مصر عمَّر دهرًا وأتاه الموت فما استطاع له دفعًا فمن وصل إليه فلا يسلبه ما عليه وليأخذ من بين يديه‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ تنيس أخ لدمياط‏.‏

وقال المسعوديّ في كتاب مروج النصب وغيره‏:‏ تنيس كانت أرضًا لم يكن بمصر مثلها استواء وطيب تربة وكانت جنانًا ونخلًا وكرمًا وشجرًا ومزارع وكانت فيها مجار على ارتفاع من الأرض ولم ير الناس بلدًا أحسن من هذه الأرض ولا أحسن اتصالًا من جنانها وكرومها ولم يكن بمصر كورة يقال إنها تشبهها إلا الفيوم وكان الماء منحدرًا إليها لا ينقطع عنها صيفًا ولا شتاءً يسقون جنانهم إذا شاءوا وكذلك زروعهم وسائره يصب إلى البحر من جميع خلجانه ومن الموضع المعروف بالأشتوم وقد كان بين البحر وبين هذه الأرض مسيرة يوم وكان فيما بين العريش وجزيرة قبرس طريق مسلوك إلى قبرس تسلكه الدواب يبسًا ولم يكن بين العريش وجزيرة قبرس في البحر سير طويل حتى علا الماء الطريق الذي كان بين العريش وقبرس فلما مضت لدقلطيانوس من ملكه مائتا وإحدى وخمسون سنة هجم الماء من البحر على بعض المواضع التي تُسمى اليوم‏:‏ بحيرة تنيس فأغرقه وصار يزيد في كل عام حتى أغرقها بأجمعها فما كان من القرى التي في قرارها غرق وأما الذي كان منها على ارتفاع من الأرض فبقي منه تونة وبورا وغير ذلك مما هو باق إلى هذا الوقت والماء محيط بها وكان أهل القرى التي في هذه البحيرة ينقلون موتاهم إلى تنير فنبشوهم واحدًا بعد واحد وكان استحكام غرق هذه الأرض بأجمعها قبل أن تفتح مصر بمائة سنة‏.‏

قال‏:‏ وقد كان لملك من الملوك التي كانت دارها الفرما مع أركون من أراكنة‏:‏ البلينا وما اتصل بها من الأرض حروب عملت فيها خنادق وخلجان فتحت من النيل إلى البحر يمتنع بها كل واحد من الآخر وكان ذلك داعيًا لتشعب الماء من النيل واستيلائه على هذه الأرض‏.‏

وقال في كتاب أخبار الزمان‏:‏ وكانت تنيس عظيمة لها مائة باب وقال ابن بطلان‏:‏ تنيس بلد صغير على جزيرة في وسط البحر ميله إلى الجنوب عن وسط الإقليم الرابع خمس درج وأرضه سبخة وهواؤه مختلف وشرب أهله من مياه مخزونة في صهاريج تملأ في كل سنة عند عذوبة مياه البحر بدخول ماء النيل إليها وجميع حاجاتها مجلوبة إليها في المراكب وأكثر أغذية أهلها السمك والجبن وألبان البقر فإن ضمان الجبن السلطانيّ سبعمائة دينار حسابًا عن كل ألف قالب دينار ونصف وضمان السمك عشرة آلاف دينار وأخلاق أهلها سهلة منقادة وطبائعهم مائلة إلى الرطوبة والأنوثة‏.‏

قال أبو السريّ الطبيب‏:‏ إنه كان يولد بها في كل سنة مائتا مخنث وهم يحبون النظافة والدماثة والغناء واللفة وأكثرهم يبيتون سُكارى وهم قليلو الرياضة لضيق البلد وأبدانهم ممتلئة الأخلاط وحصل بها مرض يقال له‏:‏ الفواق التنيسي فلما فتحت دمياط سار إليها المسلمون فبرز إليهم نحو عشرين ألفًا من العرب المتنصرة والقبط والروم فكانت بينهم حروب آلت إلى وقوع أبي ثور في أيدي المسلمين وانهزام أصحابه فدخل المسلمون البلد وبنوا كنيستها جامعًا وقسموا الغنائم وساروا إلى الفرما فلم تزل تنيس بيد المسلمين إلى أن كانت إمرة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك في شهر رمضان سنة إحدى ومائة فنزل الروم تنيس فقتل مزاحم بن مسلمة المراديّ أميرها في جمع من الموالي وفيهم يقول الشاعر‏:‏ ألم تربع فيخبرك الرجال بما لاقى بتنيس الموالي وكانت تنيس مدينة كبيرة وفيها آثار كثيرة للأوائل وكان أهلها مياسير أصحاب ثراء وأكثرهم حاجة وبها يحاك ثياب الشروب التي لا يصنع مثلها في الدنيا وكان يصنع فيها للخليفة ثوب يقال له‏:‏ البدنة لا يدخل فيه من الغزل سداء ولحمة غير أوقيتين وينسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة لا تحوج إلى تفصيل ولا خياطة تبلغ قيمته ألف دينار وليس في الدنيا طراز ثوب كتان يبلغ الثوب منه وهو سادج بغير ذهب مائة دينار عينًا غير طراز تنيس ودمياط وكان النيل إذا أطلق يشرب منه من بمشارق الفرما من ناحية جرجير وفاقوس من خليج تنيس فكانت من أجلَّ مدن مصر وإن كانت شطا وديفو ودميرة وتونة وما قاربها من تلك الجزائر يعمل بها الرفيع فليس ذلك يقارب التنيسيّ والدمياطيّ وكان الحمل منها إلى ما بعد سنة ستين وثلثمائة يبلغ من عشرين ألف دينار إلى ثلاثين ألف دينار لجهاز العراق فلما تولى الوزير يعقوب بن كلس تدبير المال استأصل ذلك بالنوائب وكان يسكن بمدينة تنيس ودمياط نصارى تحت الذمّة وكان أهل تنيس يصيدون السماني وغير ذلك من الطير على أبواب دورهم والسماني طائر يخرج من البحر فيقع في تلك الشباك وكانت السفن تركب من تنيس إلى الفرما وهي على ساحل البحر‏.‏